المادة    
الإيمان بالقدر له أربع مراتب: سنذكرها إن شاء الله تفصيلاً فيما بعد، لكن نوجزها الآن لكي نصل إِلَى مرتبة الخلق، ومعنى الإيمان بالقدر: أن نؤمن بأنه ركن من أركان الإيمان كما في حديث جبريل ومن معانيه أن يؤمن بمراتبه الأربع.
وأول المراتب: العلم: فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم ما كَانَ وما سيكون وأدلتها مستفيضة.
ثُمَّ المرتبة الثانية: الكتابة، أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب ذلك كله أيضاً في اللوح المحفوظ كما في الحديث عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {أول ما خلق الله القلم أمره أن يكتب فكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة} وقبل ذلك يقول الله تعالى: ((مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَاب)) [الحديد:22] وقَالَ: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يّـس:12].

ثُمَّ المرتبة الثالثة: وهي المشيئة والإرادة: فكل ما وقع فالله قد شاء أن يقع، ولا يقع في خلقه ما لم يشأ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سواء من الشر أو من الخير، وشاء وقوع الشر ولم يرض به، وشاء وقوع الخير ورضي به.
والمرتبة الرابعة: وهي مرتبة الخلق والإيجاد: فلو أن فلاناً من النَّاس صلّى في وقت معين فإن الله سبحانه قد علم أنه سيصلي في هذا الوقت المعين قبل أن يخلقه، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنه سيصلى كذلك، وشاء اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يصلي، وخلق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في هذا العبد هذا الفعل كما قال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) [الصافات:96] فهو الذي خلق هذا العمل، والعبد فاعل له، وهذا مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يقرر المسألة بوضوح أن لا خالق إلا الله ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر:62].
  1. من أعظم الردود على القدرية

    والذين خالفوا في المرتبة الرابعة من مراتب القدر هم القدرية ولهذا ذكر الإمام أَحْمَد رحمه الله تعالى عبارة عظيمة في حق القدر فقَالَ: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كَفَرُوا" وهذا يدل عَلَى دقة فهم السلف الصالح.
    فنقول لهم: هل يَعلمُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن هذا الفعل سيقوم؟ فإذا قالوا: نعم، الله تَعَالَى يعلم ذلك. فنقول لهم: فما المانع أن يكون كتبه، فإن قالوا وكتبه، فنقول لهم: فما المانع أن يشاءه، فإن قالوا لا مانع أن يشاءه، لكن العبد هو الذي يفعل، فنقول لهم: أهو الذي خلقه؟ فإما أن تقولوا إن الله علمه وكتبه وشاءه والعبد خلقه وهذه لا يقرها عقل سليم، أو يقولوا: والله خلقه، فيستسلموا، ويلزموا الحجة، فإن لم يقروا فنتجادل معهم في العلم.

    فإذا لم يقر القدري بأن الله يعلم كل شيء فقد كفر، لا لأنه أنكر أن العبد يخلق فعل نفسه، بل لأنه أنكر شيئاً واضحاً، يعلم العامي والجاهل من الْمُسْلِمِينَ أن من قاله يكفر.
  2. مذهب أهل السنة في إثبات القدر

    ومذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله تَعَالَى خالق كل شيء، ومنها أفعال العباد، وهذا يُجلي لنا حقيقة عظيمة يريدها المصنف، وهي حقيقة التوحيد، وأنه لا شأن لأحد ولا فضل إلا من بعد فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الذي خلقك أولاً، ثُمَّ أعطاك الهداية، ووفقك للعمل الصالح وللدعاء، وأثابك عليه، وهو الذي خلق هذا العمل فيك وأعطاك القدرة عليه، ثُمَّ هو بعد ذلك يمتنُّ عليك بالجنة جزاء لك عَلَى هذا العمل.
    فالفضل كله من أول الأمر إِلَى آخرِهِ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والعبد دائرٌ بين منزلتين منزلة ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) ومنزلة ((إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) وهو في الحالتين لا يملك شيئاً. فالعبادة لله وحده، والاستعانة عَلَى أداء هذه العبادة وتحقيقها هي من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وتطلب منه وحده، ولذلك كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو الله ويقول: {ولا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين} نعوذ بالله أن يكلنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا، فإن العبد لو خلى بينه وبين نفسه فإنه يخذل ولا يوفق للخير أبداً.
    ولهذا فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يظلم الكفار والعصاة أبداً بل بين لهم الحق وأنار لهم الطريق، وغاية ما في الأمر أنه تَعَالَى لم يوفقهم للخير، فسلكوا طريق الشر، ثُمَّ أقام عليهم الحجة فازدادوا كفراً، وكلما ظهرت الدلائل القوية المؤكدة لهم أنهم عَلَى باطل وكفر ازدادوا كفراً وعتواً وجبروتاً، كما حصل لقوم فرعون ولكفار قريش ولكل المكذبين الجاحدين في كل زمان ومكان.
    ولهذا يجب علينا أن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن لا يكلنا إِلَى أنفسنا طرفة عين، ونعلم ونوقن أن الفضل لله وحده، وأن الخير من عنده وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأننا لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً، فهو الذي يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت عند سؤال الملكين، وهو الذي يمن عليهم بأن يجوزوا الصراط، وهو جل شأنه الذي يدخلهم الجنة بفضله تَعَالَى وكرمه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رَسُول الله! قَالَ: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل}.
    فالخير والفضل كله إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومنه جل شأنه، وهو الذي عنده خزائن كل شيء،
    وبهذا نكون قد أكملنا الباب المتعلق بالشَّفَاعَةِ وما تبعه من الاستطراد في مسألة التوسل والْحَمْدُ لِلَّهِ.